" أكيرا كوروساوا"..المخرج الذي يشعرك بتعب حين تكتب عن أفلامه

صحيفة البلاد 40 منذ1 سنة

  كما هو معروف وشائع ان أفلام السينما تعتمد في نصوصها على مصدرين، الأول هو الروايات الأدبية التي تتحول بواسطة السيناريست المتخصص إلى نصوص سينمائية يتولى إخراجها المخرجون، وثانيا السيناريوهات التي يتم تأليفها مستقلة عن روايات الأدباء والكتاب، والمصدر الأول دائما يكون هو التحدي الأكبر لكل مخرج بسبب رغبة الكاتب في إبراز قصته كاملة على الشاشة دون بتر وتشويه. لقد استطاع المخرج الياباني الكبير اكيرا كوروساوا أن يكون أمينا لتقاليد المدرسة الروسية في السينما، إزاء الأعمال الأدبية، ونعني بذلك عندما حول كتاب " في أدغال اوسوري" للكاتب والرحالة فلاديمير اريسنييف إلى فيلم سينمائي من إنتاج الاتحاد السوفيتي آنذاك حينما كان يقيم هناك بعد مشاكل إنتاجيه تعرض لها في بلده اليابان، وبالرغم من إنني شاهدت الفيلم قبل نحو عشر سنوات، إلا ان ذلك لم يمنع من مشاهدتي له مرة أخرى كنوع من الغوص في دفتر الذكريات، خاصة وأن السينما قد دخلت مكونا أساسيا في وجداننا وعقليتنا. الاتجاه الروسي العام في السينما إزاء الأعمال الأدبية، عودنا أن نرى هذه الأعمال مصورة بأمانة كبيرة تطابق تفاصيل النص والوصف والحبكة دون أن يجرأ أي مخرج لهذه الأعمال الروسية الكلاسيكية على وجه الخصوص التصرف ببنيتها وتغير سياق أحداثها أو خاتمتها أو رؤى شخصياتها، وكوروساوا في هذا الفيلم الذي أطلق عليه اسم "ديرسو أوزالا" لم يخرج عن هذه القاعدة، لذا فإن بعض المبالغات والعطف الإنساني والوجداني الفائض في حياة بطل الفيلم" ديرسو" لم يستطيع المخرج الفذ ان يتجاوزها، بل ظل مقيدا بكل حرفيات الكتاب إلا بحدود ضيقة جدا. لكن إبداع وعبقرية كوروساوا ساعداه على الوصول إلى صيغة متقدمة في التعامل مع بطله، فمن الملاحظ أن المخرج لم يعمد ولا بلقطة واحدة إلا فيما ندر، أن يصور " ديرسو اوزالا" بالذات، أو وجهه، بلقطات كبيرة – كلوز آب- مما جعل هذه السمة متطورة في بنية الفيلم لعدة اعتبارات فنية أهمها ان وجه الممثل المنغولي أو التبتي غير معبر بتفاصيله، كما أن حجم حركة اليدين والجسم الضئيل القصير والصوت والنبرة بمجموعها كانت تشكل ثقل التأثير على المتلقي، وكانت بذاتها بمثابة لقطات قريبة وحادة التأثير وغنية في لغتها التعبيرية، وكثيرا ما اقتربت الكاميرا من ظهر البطل " ديرسو" وصورته على بعد أحيانا ضمن جزئيات مكونات الكادر أو المشهد.. ولأن هذا الفيلم ليس ملحميا جماعيا، لكنه أعطى قيمة الملحمة، عبر فردية ذات شمول إنساني غني وفريد، فقد تركز على حياة " ديرسو" ضمن ذكريات الكاتب، وقد كانت التنقلات بين السنوات، على اعتبار ان الفيلم يروي على لسان الرحالة، في فترات مختلفة قد أعطت نمطا من التلميح بالحياة، حيث لم يألف البطل " ديرسو" الاستقرار في المدينة، بمعنى ان هذا الكائن الأليف المتوحد في وحشيته وتلقائيته، والذي أحب الطبيعة وأحب الإنسان " الكابتن وأسرته، بذات القوة والاندفاع، لم يستطع التفريط بطرفي المعادلة، وحين غادر بيت الكابتن في المدينة ليعود ثانية إلى الغابة، مات هناك. إن هذه الدراما السيكولوجية هي فعل كوروساوا، تقنينا وفكريا، عبر " ديرسو اوزالا" إذ ان ما يهم كوروساوا هو الدراما الداخلية أو الخارجية للإنسان، والمظهر الذي يظهر به هذا الإنسان بصورة صحيحة من خلال الدراما. يقول كيروساوا": ولكي تفهم الإنسان بصورة صحيحة يجب ان تظهره ضمن الإطار الاجتماعي أو السياسي الذي يعيش فيه سواء أكان هذا الإطار تاريخيا او حديثا." فهل كان موت " ديرسو اوزالا" إدانة للرفض التلقائي لوحشية المدينة ووحشية الذين لوثوا براءة الغابة ودنسوها بالقتل، أم كان الموت تعميقا لميلودرامية شبيهة بغيرها، بل انها أمانة وثائقية لحياة إنسان حقيقي كما رواها الرحالة فلاديمير اريسنييف. إن هذا الفيلم الحاصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية عام 1976 يمكن اعتباره في قمة الخلق الفني ومصاغ برؤية غير عادية، من مخرج عبقري يشعرك بتعب كبير حين تريد التعبير او الكتابة عن أفلامه. يصفه الناقد السينمائي المصري الراحل سمير فريد بالقول: أسلوب كيروساوا يجمع بين التراث الثقافي الأدبي من شكسبير إلى ايزنشتين، ومن ماركس إلى الواقعية الجديدة الإيطالية.

التفاصيل

إقراء أيضا

الدول

دليل المواقع

Loading…